فصل: قال البيضاوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وانتصابها بفعل مضمر يفسره الظاهر تقديره وابتدعوا رهبانية {ابتدعوها} أي أخرجوها من عند أنفسهم ونذروها {مَا كتبناها عَلَيْهِمْ} لم نفرضها نحن عليهم {إِلاَّ ابتغاء رضوان الله} استثناء منقطع أي ولكنهم ابتدعوها ابتغاء رضوان الله {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} كما يجب على الناذر رعاية نذره لأنه عهد مع الله لا يحل نكثه {فَئَاتَيْنَا الذين ءَامَنُواْ مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ} أي أهل الرأفة والرحمة الذين اتبعوا عيسى عليه السلام والذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم {وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فاسقون} الكافرون.
{يأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ} الخطاب لأهل الكتاب {اتقوا الله وَءامِنُواْ بِرَسُولِهِ} محمد صلى الله عليه وسلم {يُؤْتِكُمْ} الله {كِفْلَيْنِ} نصيبين {مّن رَّحْمَتِهِ} لإيمانكم بمحمد صلى الله عليه وسلم وإيمانكم بمن قبله {وَيَجْعَل لَّكُمْ} يوم القيامة {نُورًا تَمْشُونَ بِهِ} وهو النور المذكور في قوله: {يسعى نُورُهُم} الآية {وَيَغْفِرْ لَكُمْ} ذنوبكم {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ لّئَلاَّ يَعْلَمَ} ليعلم {أَهْلِ الكتاب} الذين لم يسلموا و(لا) مزيدة {أَلاَّ يَقْدِرُونَ} (أن) مخففة من الثقيلة أصله أنه لا يقدرون يعني أن الشأن لا يقدرون {على شيء مّن فَضْلِ الله} أي لا ينالون شيئًا مما ذكر من فضل الله من الكفلين والنور والمغفرة لأنهم لم يؤمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينفعهم إيمانهم بمن قبله ولم يكسبهم فضلًا قط {وَأَنَّ الفضل} عطف على {أَن لا يَقْدِرُونَ} {بِيَدِ الله} أي في ملكه وتصرفه {يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء} من عباده {والله ذُو الفضل العظيم}، والله أعلم. اهـ.

.قال ابن جزي:

{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمنوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله}.
معنى {أَلَمْ يَأْنِ}: ألم يَحِنْ. يقال: أنى الأمر إذا حان وقته، وذكر الله يحتمل أن يريد به القرآن أو الذكر، أو التذكير بالمواعظ وهذه أية موعظة وتذكير قال ابن عباس: عوتب المؤمنون بهذه الآية بعد ثلاثة عشر سنة من نزول القرآن، وسمع الفضيل بن عياض قارئًا يقرأ هذه الآية فقال: قد آن فكان سبب رجوعه إلى الله. وحكي أن عبد الله بن المبارك أخذ العود في صباه ليضربه فنطق بهذه الآية فكسره ابن المبارك، وتاب إلى الله {وَلاَ يَكُونُواْ كالذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلُ} عَطَفَ ولا يكون أن تخشع ويحتمل أن يكون نهيًا، والمراد التحذير من أن يكون المؤمنون كأهل الكتب المتقدمة وهم اليهود والنصارى {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمد} أي مدة الحياة وقيل: انتظار القيامة، وقيل: انتظار الفتح والأول أظهر.
{اعلموا أَنَّ الله يُحْيِي الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا} أي يحييها بإنزال المطر وإخراج النبات، وقيل: إنه تمثيل للقلوب أي: يحيي الكله القلوب بالمواعظ كما يحيي الأرض بالمطر، وفي هذا تأنيس للمؤمنين الذين ندبوا إلى أن تخشع قلوبهم، والأول أظهر وأرجح لأنه الحقيقة.
{إِنَّ المصدقين والمصدقات} بتشديد الصاد وأصله المتصدقين، وكذلك قرأ أبيّ بن كعب وقرأ بالتخفيف من التصديق، أي صدقوا الرسول عليه الصلاة والسلام، {وَأَقْرَضُواْ الله} معطوف على المعنى، كأنه قال إن الذين تصدقوا وأقرضوا، وقد ذكرنا معنى أقرضوا في قوله: {مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله} [الحديد: 11] {الصديقون} مبالغة من الصدق أو من التصديق، وكونه من الصدق أرجح؛ لأن صيغة فِعِّيل لا تبنى إلا من فعل ثلاثي في الأكثر، وقد حُكي بناؤها من رباعي كقولهم: رجل مِسِّك من أمسك {والشهداء عِندَ رَبِّهِمْ} يحتمل أن يكون الشهداء مبتدأ وخبره ما بعده، أو يكون معطوفًا على {الصديقين}، فإن كان مبتدأ ففي المعنى قولان: أحدهما أنه جمع شهيد في سبيل الله فأخبر أنهم عند ربهم لهم أجرهم ونورهم والآخر أنه جمع شاهد، ويراد به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، لأنهم يشهدون على قومهم، وإن كان معطوفًا ففي المعنى قولان: أحدهما: أنه جمع شهيد فوصف الله المؤمنين بأنهم صديقون وشهداء: أي جمعوا الوصفين، وروي في هذا المعنى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: مؤمنوا أمتي شهداء وتلا هذه الآية، والآخر أنه جمع شاهد، لأن المؤمنين يشهدون على الناس كقوله: {لِّتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى الناس} [البقرة: 143] {لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} هذا خبر عن الشهداء خاصة إن كان مبتدأ، أو خبر عن المؤمنين إن كان الشهداء معطوفًا، ونورهم هو النور الذي يكون لهم يوم القيامة، حسبما ذكره في هذه السورة، وقيل: هو عبارة عن الهدى والإيمان.
{كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكفار نَبَاتُهُ} الآية معناها تشبيه الدنيا بالزرع الذي ينبته الغيث في سرعة تغيره بعد حسنه، وتحطمه بعد ظهوره والكفّار هنا يراد به الزراع فهو من قوله: كفرتُ الحبَّ إذا سترته تحت الأرض: وخصهم بالذكر لأنهم أهل البصر بالزرع والفلاحة، فلا يعجبهم إلا ما هو حقيق أن يعجب، وقيل: أراد الكفار بالله وخصهم بالذكر؛ لأنهم أشد إعجابًا بالدنيا وأكثر حرصًا عليها.
{سابقوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ} أي سابقوا إلى الأعمال التي تستحقون بها المغفرة، فقيل: المعنى كونوا في أول صف من القتال، احضروا تكبيرة الإحرام مع الإمام، وقيل: كونوا أو داخل إلى المسجد، وأول خارج منه وهذه أمثلة، والمعنى العام: المسابقة إلى جميع الأعمال الصالحات، وقد استدل بها قوم على أن الصلاة في أول الوقت أفضل {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السماء والأرض} السماء هنا يراد به جنس السموات بدليل قوله في [آل عمران: 133]، وقد ذكرنا هناك معنى عرضها.
{مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأرض وَلاَ في أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ} المعنى أن الأمور كلها مقدرة مكتوبة في اللوح المحفوظ من قبل أن تكون، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الله كتب مقادير الأشياء قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة» وعرشه على الماء، والمصيبة هنا عبارة عن كل ما يصيب من خير أو شر، وقيل: أراد به المصيبة في العرف وهو ما يصيب من الشر، وخص ذلك بالذكر لأنه أهم على الناس، وفي الأرض يعني القحوط والزلازل وغير ذلك، وفي أنفسكم يعني الموت، والفقر، وغير ذلك ونبرأها معناه: نخلقها والضمير يعود على المصيبة أو على أنفسكم أو على الأرض، وقيل: يعود على جميعها لأن المعنى صحيح في كلها.
{لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ على مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ} المعنى فعل الله ذلك وأخبركم به لكيلا تتأسفوا على ما فاتكم، ومعنى لا تأسوا: لا تحزنوا أي فلا تحزنوا على مافاتكم منها ولا تفرحوا فيها، وقرأ الجمهور {بما آتاكم} بالمدّ أي بما أعطاكم الله من الدنيا، وقرأ أبو عمرو {بما أتاكم} بالقصر أي بما جاءكم من الدنيا فإن قيل: إن الإنسان لا يملك نفسه أن يفرح بالخير ويحزن للشر كما قال: أبو بكر الصديق رضي الله عنه لما أُتي بمال كثير؛ اللهم إنا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زينت لنا، فالجواب: أن النهي عن الفرح إنما هو عن الذي يقود إلى الكبر والطغيان، وعن الحزن الذي يخرج عن الصبر والتسليم {كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} المختال صاحب الخيلاء، والفخور شديد الفخر على الناس.
{الذين يَبْخَلُونَ} بدل من {كل مختال فخور} أو خبر ابتداء مضمر تقديره: هم الذين أو منصوب بإضمار: أعني أو مبتدأ وخبره محذوف.
{وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب والميزان} الكتاب هنا جنس الكتب الميزان العدل وقيل: الميزان الذي يوزن به، ورُوي أن جبريل نزل بالميزان ودفعه إلى نوح وقال له: مر قومك يزنوا به {وَأَنزَلْنَا الحديد} خبر عن خلقه وإيجاده بالإنزال وقيل: بل أنزله حقيقة، لأن أدم نزل من الجنة ومعه المطرقة والإبرة {فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ} يعني أنه يعمل من سلاح للقتال ولذلك قال: وليعلم الله من ينصره ورسله والمنافع للناس: سكك الحرث والمسامير وغير ذلك.
{فَمِنْهُمْ مُّهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ} أي من ذرية نوح وإبراهيم مهتدون قليلون، وأكثرهم فاسقون لأن منهم اليهود والنصارى وغيرهم.
{قَفَّيْنَا} ذكر في [القرة: 87] {وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الذين اتبعوه رَأْفَةً وَرَحْمَةً} هذه ثناء عليهم بمحبة بعضهم في بعض كما وصف أصحاب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، بأنهم رحماء بينهم {وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها} الرهبانية هي الانفراد في الجبال، والانقطاع عن الناس في الصوامع، ورفض النساء وترك الدنيا، ومعنى ابتدعوها أي أحدثوها من غير أن يشرعها الله لهم، وإعراب رهبانية معطوف على رأفة ورحمة أي جعل الله في قلوبهم الرأفة والرحمة والرهبانية، وابتدعوها صفة للرهبانية، والجعل هنا بمعنى الخلق. والمعتزلة يعربون رهبانية مفعولًا بفعل مضمر يفسره ابتدعوها؛ لأن مذهبهم أن الإنسان يخلق أفعاله، فأعربوها على مذهبهم، وكذلك أعربها أبو علي الفارسي وذكر الزمخشري الوجهين {مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابتغاء رِضْوَانِ الله} كتبنا هنا بمعنى، فرضنا وشرعنا وفي هذه قولان: أحدهما أن الاستنثاء منقطع، والمعنى ما كتبنا عليهم الرهبانية، ولكنهم فعلوها من تلقاء أنفسهم، ابتغاء رضوان الله، والآخر أن الاستئناف متصل والمعنى كتبناها عليهم ابتغاء رضوان الله والأول أرجح لقوله: {ابتدعوها} ولقراءة عبد الله بن مسعود: {ما كتبناها عليهم لكن ابتدعوها} {فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا} أي لم يدوموا عليها، ولم يحافظوا ابتدعوا الرهبانية وكان يجب عليهم إتمامها، وإن لم يكتبها الله سبحانه وتعالى عليهم، لأن دخل في شيء من النوافل يجب عليه إتمامه وقيل: الضمير لمن جاء بعد الذين ابتدعوا الرهبانية من أتباعهم.
{وَآمِنُواْ بِرَسُولِهِ} إن قيل: كيف خاطب الذين أمنوا وأمرهم بالإيمان وتحصيل الحاصل لا ينبغي؟ فالجواب من وجهين: أحدهما أن معنى آمنوا دوموا على الإيمان وأثبتوا عليه، والآخر أنه خطاب لأهل الكتاب فالمعنى: يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، ويؤيد هذا قوله: {يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ} أي نصيبين، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه وآمن بي» الحديث {وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ} يحتمل أن يريد النور الذي يسعى بين أيدي المؤمنين يوم القيامة، أو يكون عبارة عن الهدى ويؤيد الأول أنه مذكور في هذه السورة، ويؤيد الثاني قوله: {وجعلنا له نورًا يمشي به في الناس} {لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب أَلاَّ يَقْدِرُونَ على شَيْءٍ مِّن فَضْلِ الله} لا في قوله: {لئلا} زائدة، والمعنى: ليعلم أهل الكتاب وكذلك قرأها ابن عباس وقرأ ابن مسعود {لكيلا يعلم}، والمعنى: إن كان الخطاب لأهل الكتاب: يا أهل الكتاب آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، ليعلم أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم، ليلعم أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا أن لا يقدروا على شيء من فضل الله الذي وعد من آمن منكم، وهو تضعيف الأجر والنور والمغفرة، لأنهم لم يسلموا، فلم ينالوا شيئًا، من ذلك، وإن كان الخطاب للمسلمين، فالمعنى: ليعلم أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا أنهم لا يقدرون أن ينالوا شيئًا ممن أعطى الله المسلمين من تضعيف الأجر والنور والمغفرة، وقد روي في سبب نزول الآية: أن اليهود افتخرت على المسلمين فنزلت الآية في الرد عليهم، وهو يقوي هذا القول، وروي أيضًا أن سببها أن الذين أسلموا من أهل الكتاب افتخروا على غيرهم من المسلمين بأنهم يؤتيهم الله أجرهم مرتين فنزلت الآية معلمة أن المسلمين مثلهم في ذلك. اهـ.

.قال البيضاوي:

{أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله}.
ألم يأت وقته يقال أنى الأمر يأني أنيًا وأنًا إذا جاء إناه، وقرئ: {ألم يئن} بكسر الهمزة وسكون النون من آن يئين بمعنى أتى وألمًا يأن. روي أن المؤمنين كانوا مجدبين بمكة فلما هاجروا أصابوا الرزق والنعمة ففتروا عما كانوا عليه فنزلت. {وَمَا نَزَلَ مِنَ الحق} أي القرآن وهو عطف على الذكر عطف أحد الوصفين على الآخر، ويجوز أن يراد بالذكر أن يذكر الله، وقرأ نافع وحفص ويعقوب {نَزَّلَ} بالتخفيف. وقرئ: {أنزل}. {وَلاَ يَكُونُواْ كالذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلُ} عطف على {تَخْشَعَ}، وقرأ رويس بالتاء والمراد النهي عن مماثلة أهل الكتاب فيما حكي عنهم بقوله: {فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمد فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ} أي فطال عليهم الأجل لطول أعمارهم وآمالهم، أو ما بينهم وبين أنبيائهم {فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ}. وقرئ {الأمد} وهو الوقت الأطول. {وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فاسقون} خارجون عن دينهم رافضون لما في كتابهم من فرط القسوة.
{اعلموا أَنَّ الله يُحْييِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا} تمثيل لإِحياء القلوب القاسية بالذكر والتلاوة بالإِحياء والإموات ترغيبًا في الخشوع وزجرًا عن القساوة. {قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} كي تكمل عقولكم.
{إِنَّ المصدقين والمصدقات} إن المتصدقين والمتصدقات، وقد قرئ بهما، وقرأ ابن كثير وأبو بكر بتخفيف الصاد أي الذين صدقوا الله ورسوله. {وَأَقْرَضُواُ الله قَرْضًا حَسَنًا} عطف على معنى الفعل في المحل باللام لأن معناه: الذين أصدقوا، أو صدقوا وهو على الأول للدلالة على أن المعتبر هو التصدق المقرون بالإِخلاص. {يضاعف لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ} معناه والقراءة في {يضاعف} كما مر غير أنه لم يجزم لأنه خبر إن وهو مسند إلى {لَهُمْ} أو إلى ضمير المصدر.
{والذين ءَامَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ أُوْلَئِكَ هُمُ الصديقون والشهداء عِندَ رَبّهِمْ} أي أولئك عند الله بمنزلة الصديقين والشهداء، أو هم المبالغون في الصدق فإنهم آمنوا وصدقوا جميع أخبار الله ورسله والقائمون بالشهادة لله ولهم، أو على الأمم يوم القيامة. وقيل {والشهداء عِندَ رَبّهِمْ} مبتدأ وخبر، والمراد به الأنبياء من قوله: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ} أو الذين استشهدوا في سبيل الله. {لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ} مثل أجر الصديقين والشهداء ومثل نورهم ولكنه من غير تضعيف ليحل التفاوت، أو الأجر والنور الموعودان لهم. {والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم} فيه دليل على أن الخلود في النار مخصوص بالكفار من حيث أن التركيب يشعر بالاختصاص والصحبة تدل على الملازمة عرفاء.
{اعلموا أَنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ في الأموال والأولاد} لما ذكر حال الفريقين في الآخرة حقر أمور الدنيا أعني ما لا يتوصل به إلى الفوز الآجل، بأن بين أنها أمور خيالية قليلة النفع سريعة الزوال لأنها لعب يتعب الناس فيه أنفسهم جدًا إتعاب الصبيان في الملاعب من غير فائدة، ولهو يلهون به أنفسهم عما يهمهم وزينة كالملابس الحسنة والمواكب البهية والمنازل الرفيعة، وتفاخر بالأنساب أو تكاثر بالعدد والعدد، ثم قرر ذلك بقوله: {كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكفار نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا} وهو تمثيل لها في سرعة تقضيها وقلة جدواها يحال نبات أنبته الغيث فاستوى وأعجب به الحراث، أو الكافرون بالله لأنهم أشداء إعجابًا بزينة الدنيا ولأن المؤمن إذا رأى معجبًا انتقل فكره إلى قدرة صانعه فأعجب بها، والكافر لا يتخطى فكره عما أحس به فيستغرق فيه إعجابًا، ثم هاج أي يبس بعاهة فاصفر ثم صار حطامًا، ثم عظم أمور الآخرة الأبدية بقوله: {وَفِى الآخرة عَذَابٌ شَدِيدٌ} تنفيرًا عن الانهماك في الدنيا وحثًا على ما يوجب كرامة العقبى، ثم أكد ذلك بقوله: {وَمَغْفِرَةٌ مّنَ الله ورضوان} أي لمن أقبل عليها ولم يطلب إلا الآخرة. {وَما الحياة الدنيا إِلاَّ متاع الغرور} أي لمن أقبل عليها ولم يطلب بها الآخرة.
{سَابِقُواْ} سارعوا مسارعة المسابقين في المضمار. {إلى مَغْفِرَةٍ مّن رَّبّكُمْ} إلى موجباتها. {وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السماء والأرض} أي عرضها كعرضهما وإن كان العرض كذلك فما ظنك بالطول، وقيل المراد به البسطة كقوله: {فَذُو دُعَاء عَرِيضٍ} {أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِالله وَرُسُلِهِ} فيه دليل على أن الجنة مخلوقة وأن الإِيمان وحده كاف في استحقاقها. {ذلك فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء} ذلك الموعود يتفضل به على من يشاء من غير إيجاب. {والله ذُو الفضل العظيم} منه التفضل بذلك وإن عظم قدره.
{مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ في الأرض} كجدب وعاهة. {وَلاَ في أَنفُسِكُمْ} كمرض وآفة. {إِلاَّ في كتاب} إلا مكتوبة في اللوح مثبتة في علم الله تعالى. {مّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا} نخلقها والضمير لل {مُّصِيبَةٍ} أو {الأرض} أو للأنفس. {إِنَّ ذلك} أي إثباته في كتاب. {عَلَى الله يَسِيرٌ} لاستغنائه تعالى فيه عن العدة والمدة. {لّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ} أي أثبت وكتب كي لا تحزنوا {على مَا فَاتَكُمْ} من نعم الدنيا {وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَا ءاتاكم} بما أعطاكم الله منها فإن من علم أن الكل مقدر هان عليه الأمر، وقرأ أبو عمرو {بِمَا ءاتاكم} من الإِتيان ليعادل ما فاتكم، وعلى الأول فيه إشعار بأن فواتها يلحقها إذ خليت وطباعها، وأما حصولها وإبقاؤها فلابد لهما من سبب يوجدها ويبقيها، والمراد نفي الآسي المانع عن التسليم لأمر الله والفرح الموجب للبطر والاحتيال، ولذلك عقبه بقوله: {والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} إذ قل من يثبت نفسه في حالي الضراء والسراء.